فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم نقول: حاصل ذلك أنها دعت أولئك النسوة وأعدت لكل واحدة منهن مجلسًا معينًا وآتت كل واحدة منهن سكينًا أي لأجل أكل الفاكهة أو لأجل قطع اللحم ثم إنها أمرت يوسف عليه السلام بأن يخرج إليهن ويعبر عليهن وأنه عليه السلام ما قدر على مخالتها خوفًا منها: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} وههنا مسائل:
المسألة الأولى:
في: {أَكْبَرْنَهُ} قولان: الأول: أعظمنه.
والثاني: {أكبرن} بمعنى حضن.
قال الأزهري والهاء للسكت يقال أكبرت المرأة إذا حاضت، وحقيقته دخلت في الكبر لأنها بالحيض تخرج من حد الصغر إلى حد الكبر وفيه وجه آخر، وهو أن المرأة إذا خافت وفزعت فربما أسقطت ولدها فحاضت، فإن صح تفسير الإكبار بالحيض فالسبب فيه ما ذكرناه وقوله: {قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} كناية عن دهشتهن وحيرتهن، والسبب في حسن هذه الكناية أنها لما دهشت فكانت تظن أنها تقطع الفاكهة وكانت تقطع يد نفسها، أو يقال: إنها لما دهشت صارت بحيث لا تميز نصابها من حديدها وكانت تأخذ الجانب الحاد من ذلك السكين بكفها فكان يحصل الجراحة في كفها.
المسألة الثالثة:
اتفق الأكثرون على أنهن إنما أكبرنه بحسب الجمال الفائق والحسن الكامل قيل: كان فضل يوسف على الناس في الفضل والحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مررت بيوسف عليه السلام ليلة عرج بي إلى السماء فقلت لجبريل عليه السلام من هذا؟ فقال هذا يوسف فقيل يا رسول الله كيف رأيته؟ قال: كالقمر ليلة البدر» وقيل: كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس من السماء عليها، وقيل: كان يشبه آدم يوم خلقه ربه، وهذا القول هو الذي اتفقوا عليه، وعندي أنه يحتمل وجهًا آخر وهو أنهن إنما أكبرنه لأنهن رأين عليه نور النبوة وسيما الرسالة، وآثار الخضوع والاحتشام، وشاهدن منها مهابة النبوة، وهيئة الملكية وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح، وعدم الاعتداد بهن، وكان الجمال العظيم مقرونًا بتلك الهيبة والهيئة فتعجبن من تلك الحالة فلا جرم أكبرنه وعظمنه، ووقع الرعب والمهابة منه في قلوبهن، وعندي أن حمل الآية على هذا الوجه أولى.
فإن قيل: فإذا كان الأمر كذلك فكيف ينطبق على هذا التأويل قولها: {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِى فِيهِ} وكيف تصير هذه الحالة عذرًا لها في قوة العشق وإفراط المحبة؟
قلنا: قد تقرر أن الممنوع متبوع فكأنها قالت لهن مع هذا الخلق العجيب وهذه السيرة الملكية الطاهرة المطهرة فحسنه يوجب الحب الشديد وسيرته الملكية توجب اليأس عن الوصول إليه فلهذا السبب وقعت في المحبة، والحسرة، والأرق والقلق، وهذا الوجه في تأويل الآية أحسن والله أعلم.
المسألة الثالثة:
قرأ أبو عمرو: {وَقُلْنَ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} بإثبات الألف بعد الشين وهي رواية الأصمعي عن نافع وهي الأصل لأنها من المحاشاة وهي التنحية والتبعيد، والباقون بحذف الألف للتخفيف وكثرة دورها على الألسن اتباعًا للمصحف {وحاشا} كلمة يفيد معنى التنزيه، والمعنى هاهنا تنزيه الله تعالى من المعجز حيث قدر على خلق جميل مثله.
أما قوله: {حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء} فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله.
المسألة الرابعة:
قوله: {مَا هذا بَشَرًا إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} فيه وجهان:
الوجه الأول: وهو المشهور أن المقصود منه إثبات الحسن العظيم له قالوا: لأنه تعالى ركز في الطباع أن لا حي أحسن من الملك، كما ركز فيها أن لا حي أقبح من الشيطان، ولذلك قال تعالى في صفة جهنم: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ الشياطين} [الصافات: 65] وذلك لما ذكرنا أنه تقرر في الطباع أن أقبح الأشياء هو الشيطان فكذا هاهنا تقرر في الطباع أن أحسن الأحياء هو الملك، فلما أرادت النسوة المبالغة في وصف يوسف عليه السلام بالحسن لا جرم شبهنه بالملك.
والوجه الثاني: وهو الأقرب عندي أن المشهور عند الجمهور أن الملائكة مطهرون عن بواعث الشهوة، وجواذب الغضب، ونوازع الوهم والخيال فطعامهم توحيد الله تعالى وشرابهم الثناء على الله تعالى، ثم إن النسوة لما رأين يوسف عليه السلام لم يلتفت إليهن ألبتة ورأين عليه هيبة النبوة وهيبة الرسالة، وسيما الطهارة قلن إنا ما رأينا فيه أثرًا من أثر الشهوة، ولا شيئًا من البشرية، ولا صفة من الإنسانية، فهذا قد تطهر عن جميع الصفات المغروزة في البشر، وقد ترقى عن حد الإنسانية ودخل في الملكية.
فإن قالوا: فإن كان المراد ما ذكرتم فكيف يتمهد عذر تلك المرأة عند النسوة؟ فالجواب قد سبق.
والله أعلم.
المسألة الخامسة:
القائلون بأن الملك أفضل من البشر احتجوا بهذه الآية فقالوا: لا شك إنهن إنما ذكرت هذا الكلام في معرض تعظيم يوسف عليه السلام.
فوجب أن يكون إخراجه من البشرية وإدخاله في الملكية سببًا لتعظيم شأنه وإعلاء مرتبته، وإنما يكون الأمر كذلك لو كان الملك أعلى حالًا من البشر، ثم نقول: لا يخلو إما أن يكون المقصود بيان كمال حاله في الحسن الذي هو الخلق الظاهر، أو كمال حاله في الحسن الذي هو الخلق الباطن، والأول باطل لوجهين: الأول: أنهم وصفوه بكونه كريمًا، وإنما يكون كريمًا بسبب الأخلاق الباطنة لا بسبب الخلقة الظاهرة، والثاني: أنا نعلم بالضرورة أن وجه الإنسان لا يشبه وجوه الملائكة ألبتة.
أما كونه بعيدًا عن الشهوة والغضب معرضًا عن اللذات الجسمانية متوجهًا إلى عبودية الله تعالى مستغرق القلب، والروح فيه فهو أمر مشترك فيه بين الإنسان الكامل وبين الملائكة.
وإذا ثبت هذا فنقول: تشبيه الإنسان بالملك في الأمر الذي حصلت المشابهة فيه على سبيل الحقيقة أولى من تشبيهه بالملك فيما لم تحصل المشابهة فيه ألبتة، فثبت أن تشبيه يوسف عليه السلام بالملك في هذه الآية إنما وقع في الخلق الباطن، لا في الصورة الظاهرة، وثبت أنه متى كان الأمر كذلك وجب أن يكون الملك أعلى حالًا من الإنسان من هذه الفضائل، فثبت أن الملك أفضل من البشر والله أعلم.
المسألة السادسة:
لغة أهل الحجاز إعمال {ما} عمل ليس وبها ورد قوله: {مَا هذا بَشَرًا} ومنها قوله: {مَّا هُنَّ أمهاتهم} [المجادلة: 2] ومن قرأ على لغة بني تميم.
قرأ: {مَا هذا بَشَرًا} وهي قراءة ابن مسعود وقرئ: {مَا هذا بَشَرًا} أي ما هو بعبد مملوك للبشر: {إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} ثم نقول: ما هذا بشرًا، أي حاصل بشرًا بمعنى هذا مشترى، وتقول: هذا لك بشرًا أم بكرًا، والقراءة المعتبرة هي الأولى لموافقتها المصحف، ولمقابلة البشر للملك. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وقال نسوة في المدينة}
قال جويبر: كن أربعًا: امرأة الحاجب وامرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة القهرمان. قال مقاتل: وامرأة صاحب السجن وفي هذه المدينة قولان:
أحدهما: مصر.
الثاني: عين شمس. {امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه} قلن ذلك ذمًا لها وطعنًا فيها وتحقيقًا لبراءة يوسف وإنكارًا لذنبه.
والعزيز اسم الملك مأخوذ من عزته، ومنه قول أبى داؤد:
درة غاص عليها تاجر ** جلبت عند عزيز يوم طل

{قد شغفها حبًّا} أي قد دخل حبه من شغاف قلبها. وفي شغاف القلب خمسة أقاويل:
أحدها: أنه حجاب القلب، قاله ابن عباس.
الثاني: أنه غلاف القلب وهو جلدة رقيقة بيضاء تكون على القلب وربما سميت لباس القلب، قاله السدي وسفيان.
الثالث: أنه باطن القلب، قاله الحسن، وقيل هو حبة القلب.
الرابع: أنه ما يكون في الجوف، قاله الأصمعي.
الخامس: هو الذعر والفزع الحادث عن شدة الحب، قاله إبراهيم.
وقد قرئ في الشواذ عن ابن محيصن: {قد شعفها حبًا} (بالعين غير معجمة) واختلف في الفرق بينهما على قولين:
أحدهما: أن الشغف بالغين معجمة هو الجنون وبالعين غير معجمة هو الحب، قاله الشعبي.
والثاني: أن الشغف بالإعجام الحب القاتل، والشعف بغير إعجام دونه، قاله ابن عباس وقال أبو ذؤيب:
فلا وجْدَ إلا دُون وجْدٍ وجَدته ** أصاب شغافَ القلب والقلبُ يشغف

{إنا لنراها في ضلال مبين} فيه وجهان: أحدهما: في ضلال عن الرشد وعدول عن الحق.
الثاني: معناه في محبة شديدة. ولما اقترن شدة حبها بالشهوة طلبت دفع الضرر عن نفسها بالكذب عليه، ولو خلص من الشهوة طلبت دفع الضرر عنه بالصدق على نفسها.
قوله عز وجل: {فلما سمعت بمكرهن} فيه وجهان:
أحدهما: أنه ذمهن لها وإنكارهن عليها.
الثاني: أنها أسرت إليهن بحبها له فأشعْن ذلك عنها.
{أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ} وفي: {أعتدت} وجهان:
أحدهما: أنه من الإعداد.
الثاني: أنه من العدوان.
وفي (المُتْكَأ) ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه المجلس، قاله ابن عباس والحسن.
والثاني: أنه النمارق والوسائد يتكأ عليها، قاله أبو عبيدة والسدي.
الثالث: أنه الطعام مأخوذ من قول العرب اتكأنا عند فلان أي طعمنا عنده، وأصله أن من دعي إلى طعام أُعد له متكأ فسمي الطعام بذلك متكأ على الاستعارة. فعلى هذا أي الطعام هو؟
فيه أربعة أقاويل:
أحدها: أنه الزُّماورد، قاله الضحاك وابن زيد.
الثاني: أنه الأترج، قاله ابن عباس ومجاهد وهو وتأويل من قرأها مخففة غير مهموزة، والمتْك في كلامهم الأترج، قال الشاعر:
نشرب الإثم بالصُّواع جهارا ** وترى المتك بيننا متسعارا

والإثم: الخمر، والمتك: الأترج.
الثالث: أنه كل ما يجز بالسكين وهو قول عكرمة لأنه في الغالب يؤكل على متكأ.
الرابع: أنه كل الطعام والشراب على عمومه، وهو قول سعيد بن جبير وقتادة.
{وآتت كلَّ واحدة منهن سكينًا وقالت اخرج عليهن} وإنما دفعت ذلك إليهن في الظاهر معونة على الأكل، وفي الباطن ليظهر من دهشتهن ما يكون شاهدًا عليهن. قال الزجاج: كان كالعبد لها فلم تمكنه أن يخرج إلا بأمرها.
{فلما رأينه أكبرنه} وفيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: معناه أعظمنه، قاله ابن عباس.
الثاني: معناه وجدن شأنه في الحسن والجمال كبيرًا، قال ابن بحر.
الثالث: معناه: حضن عند رؤيته، وهو قول رواه عبد الصمد بن علي الهاشمي عن أبيه عن جده عبد الله بن عباس.
وقيل: إن المرأة إذا جزعت أو خافت حاضت، وقد يسمى الحيض إكبارًا، قال الشاعر:
نأتي النساء على أطهارهن ولا ** نأتي النساء إذا أكبرن إكبارًا

{وقطعن أيديهن} دهشًا ليكون شاهدًا عليهن على ما أضمرته امرأة العزيز فيهن.
وفي قطع أيديهن وجهان:
أحدهما: أنهن قطعن أيديهن حتى بانت.
الثاني: أنهن جرحن أيديهن حتى دميت، من قولهم قطع فلان يده إذا جرحها.
{وقلن حاش لله} بالألف في قراءة أبي عمرو ونافع في رواية الأصمعي وقرأ الباقون {حاش لله} بإسقاط الألف، ومعناهما واحد.
وفي تأويل ذلك وجهان:
أحدهما: معاذ الله، قاله مجاهد.
الثاني: معناه سبحان الله، قاله ابن شجرة.
وفي أصله وجهان: أحدهما: أنه مأخوذ من قولهم كنت في حشا فلا أي في ناحيته.
والثاني: أنه مأخوذ من قولهم حاش فلانًا أي اعزله في حشا يعني في ناحية. {ما هذا بشرًا} فيه وجهان:
أحدهما: ما هذا أهلًا للمباشرة.
الثاني: ما هذا من جملة البشر. وفيه وجهان:
أحدهما: لما علمهن من عفته وأنه لو كان من البشر لأطاعها.
الثاني: لما شاهدن من حسنه البارع وجماله البديع: {إن هذا إلا ملك كريم} وقرئ {ما هذا بشرًا} (بكسر الباء والشين) أي ما هذا عبدًا مشترى إن هذا إلا ملك كريم، مبالغة في تفضيله في جنس الملائكة تعظيمًا لشأنه. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا}
ذكر الفعل المسند إلى النسوة لتذكير اسم الجمع و: {نسوة} جمع قلة لا واحد له من لفظه، وجمع التكثير نساء، و: {نسوة} فعلة، وهو أحد الأبنية الأربعة التي هي لأدنى العدد، وقد نظمها القائل ببيت شعر: البسيط:
بأفعل وبأفعال وأفعلة ** وفعلة يعرف الأدنى من العدد

ويروى أن هؤلاء النسوة كن أربعًا: امرأة خبازة، وامرأة ساقية، وامرأة بوابة، وامرأة سجانة. و: {العزيز}: الملك ومنه قول الشاعر: الرمل:
درة غاص عليها تاجر ** جلبت عند عزيز يوم طل

والفتى الغلام، وعرفه في المملوك- وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقل أحدكم عبدي وأمتي، وليقل فتاي وفتاتي»، ولكنه قد يقال في غير المملوك، ومنه: {إذ قال موسى لفتاه} [الكهف: 60] وأصل الفتى في اللغة الشاب، ولكن لما كان جل الخدمة شبابًا استعير لهم اسم الفتى. و: {شغفها} معناه: بلغ حتى صار من قلبها موضع الشغاف، وهو على أكثر القول غلاف من أغشية القلب، وقيل: الشغاف: سويداء القلب، وقيل: الشغاف: داء يصل إلى القلب.